من الجسد إلى الروح

طوال أيام العام يكون الإنسان فى سباق مع تلبية حاجاته، وتحصيل متطلباته هو ومن يعول.. وذلك عمل نبيل، بلا شك.. يثاب المرء عليه عند الله؛ لأن الإسلام يرفض أن يكون المرء عالة على الآخرين، بل يدعوه ليكون منتجًا، ذا بصمة فى عمارة الأرض: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاستعمرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه إن رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هو: 61).

لكن الإنسان وسط هذا الزحام، قد يشعر بشيء من جفاف الروح، أو تأخذه دوامة الحياة أكثر من اللازم.. فيأتى شهر رمضان ليذكّره بأنه ليس جسدًا فقط، وبأن روحه أيضاً فى حاجة إلى غذاء مثل بدنه.. غير أن لكلّ منهما غذاءه المناسب، ومادته التى يحيا بها..

فإذا كان غذاء البدن الطعامَ والشراب؛ فإن غذاء الروح حسنُ الصلة بالله تعالى، والخشوع بين يديه، واستشعار تلك الصلة الروحية العميقة بين العبد وربه.. ويا لها من صلة ترفع الإنسان مكانًا عليًّا، وتجعله ينطلق فى الحياة واضح البوصلة، متزنًا فى تفكيره وسلوكه وعلاقاته؛ فلا يظلم أحدًا، ولا يغلّب جانب المادة، ولا يتبع هواه..

الروح تجد فى «رمضان» غذاءها المناسب.. من قراءة القراءة بتدبر، والصلاة بخشوع، وكفّ الجوارح عن إيذاء الآخرين ومراقبة فلتات اللسان، ومن بذل الخير وإطعام الفقراء.. فليس عمل الروح محصورًا بين جدران المسجد، وإنما هو يأخذ من المسجد طاقاته الدافعة لينطلق بها فى جنبات الأرض..

تلك المعادلة المتوازنة بين أشواق الروح ومتطلبات الجسد، هى ما ينبغى أن نحرص عليها، وأن نجعل «رمضان» بداية لتصحيح الخلل فيها: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخرة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْض إن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77).